الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أقول غير جدير بالقبول لعدم الاستناد فيها إلى شيء صحيح، وما ذكرناه هو الأولى والأنسب، لاستناده للحديث الذي أوردناه أول سورة يس، يؤيده الخطاب في قوله تعالى {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} في المبالغة في مكابدة العبادة قد يعتريك فيه التعب الشديد، أو في هلاك نفسك في محاورة العتاة ومجادلة الطغاة من قومك من فرط الأسى والتحسر على عدم إيمانهم {إِلَّا} أي ما أنزلناه عليك يا أكرم الرسل لشقائك به، ولكن {تَذْكِرَةً} تذكرهم به وعفة {لِمَنْ يَخْشى (3)} اللّه ويتأثر بالإنذار به لرفة قلبه ولين عريكته لينتفع به، لا كما زعم المشركون، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يجتهد في عبادة ربه في مكة حتى تورمت قدماه، فلما رأى ذلك منه المشركون قالوا ما أنزل اللّه عليه الوحي الذي يزعم إلا لشقائه، وكان صلى اللّه عليه وسلم يجهد نفسه بالعبادة من جهة ومن أخرى بدعوة قومه إلى ربه ويلح على نفسه في هذين الأمرين، لأنهما غاية مطلبه ونهاية قصده في الدنيا، فأنزل اللّه عليه هذه الآية ليخفف عن نفسه الشريفة ما حملها من الأعباء، ويقتصد بالعبادة والدعوة {تَنْزِيلًا} مفعول مطلق أي أن هذا القرآن نزل عليك يا محمد {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى} (4) كما يقوله كفرة قومك من كونه سحر أو كهانة أو من خرافات الأولين أو من تعليم الغير، بل هو من اللّه الخالق لهذين الحرمين العظيمين وهو {الرَّحْمنُ} الذي وسعت رحمته كل شيء عزت قدرته وجلت عظمته {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)} استواء يليق بذاته ويراد ممنه الظهور والاستيلاء والتمكن.
جمع اصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع العالي المفرط بعلوه، واستوى بمعنى استولى على اكثر أقوال المفسرين أوضحناه في الآية 54 من الأعراف المارة، ودللنا عليه بشواهد كثيرة اتباعا لغيرنا، إلا أنه مع شواهده لا يطمئن له الضمير، كما أن ما جاء أنه بمعنى العلو والارتفاع في رواية البخاري، أو أنه بمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية 44 من سورة هود، وبقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} الآية 13 من الزخرف، ممنوع، لأنه مستحيل على اللّه تعالى، وذلك لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى، ولأنه لا يقال استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه: وهذا في حقّه تعالى محال أيضا، وإنما يقال استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل، والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات، فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة، لذلك فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات، من المجيء، واليد، والقبضة، وغيرها، لأن القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر، ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم.وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب.روى البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن وهب أنه قال كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل فقال يا أبا عبد اللّه قال تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} فكيف استواؤه؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرّحضاء (العرق الذي يحصل من أثر الحمى) ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه، فأخرج الرجل، وفي رواية سمي بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد اللّه، الرحمن على العرش استوى، فكيف استواؤه فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحصاء ثم قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج.وروي عن علي عليه السلام أنه قال: الاستواء غير مجهول، لم يقل معلوما تأدبا، وكان مالك أخذ هذه الجملة عنه رضي اللّه عنه إن لم نقل أنها من توارد الخاطر والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.وأخرج اللالكائي في كتاب السنة عن طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به ايمان، والجحود به كفر.وجاء من طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى ربنا على العرش؟ فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى اللّه تعالى إرساله، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، وروى البيهقي بسنده عن أبي عينية قال كل ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه.قال البيهقي والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة واليه ذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن بن الفضل الجبلي، ويدل عليه مذهب الشافعي ومشى عليه من المتأخرين أبو سليمان الخطابي، وأهل السنة يقولون في الاستواء على العرش صفة لحمله بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى اللّه، وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيفية وعبد اللّه بن المبارك وغيرهم من علماء أهل السنة أن هذه الآيات التي فيها الصفات المتشابهة تقرأ كما جاءت بلا كيف، هذا والذي ذهب إليه الإمام الرازي أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، والاستيلاء بمعنى الاقتدار، وهو كما ترى وأقوال السنة وبعض العلماء في هذا الباب لا تحصى، وقد قدمنا غير مرة بأن طريقتنا في هذا التفسير الجليل حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلّا إذا لم نتوصل لفهمه وورود الدليل القاطع النقلي والعقلي يصرفه عن ظاهره، فإنما نعدل عنه ضرورة ونرجع إلى التأويل بما نقتبسه أولا من القرآن لأن في بعضه تفسيرا لبعض، ثم في الحديث لأن قول الرسول شرح له، ثم إلى أقوال الأصحاب الكرام الخزامى الذين قال بحقهم صلى اللّه عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.لأنهم يغرفون من مشكاة النبوة ثم لأقوال أتباعهم من السلف الصالح ولأقوال العلماء المفسرين له الأمناء عليه الأتقياء الذين نور اللّه قلوبهم بمعرفته قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ} الآية 284 من سورة البقرة، وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا} الآية 19 من سورة الأنفال أيضا وقال تعالى: {وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} الآية 64 من سورة الكهف وقال جل قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} الآية 74 الآتية وهذا ما عليه السلف الصالح والخلف الناجح والاقتداء بهم أسلم، والأخذ بقولهم أحكم، واللّه أعلم الذي {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} 6 التراب الرطب الذي يظهر بعد حفر وجه الأرض، فإن اللّه تعالى مالك لجميع ذلك وما فوق السموات أيضا، ومتصرف فيه كيف يشاء، ولم يبق غير ذلك إلا المالك {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} يا سيد الرسل أو تسر به على حد سواء {فَإِنَّهُ} مولاك ومالك أمرك {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} 7 منه مما يخطر ببالك أو تتصوره في قلبك فيما بعد قبل تخطره وتصوره لأن السر موجود في صدرك أو لأن السر ما تسره للغير حالا، وهذا مما لا يعلمه غيرك، لأنه لم تتفوه به أو ما أسررته لنفسك، والأخص ما ستسره فيما بعد، ولا تعلمه إلا بعد أن يحوك في صدرك، لأن اللّه يعلم أنه سيحدث في سرك قبل أن تحس به، والأول أولى.
|